الجزيرة

2008/05/25

وكم ذا بمصر من المبكيات!

كنت أظن أن الغِلْظة السياسية والإعلامية المصرية الرسمية في حق غزة هي نهاية الأرب في التنكر للأُخُوَّة والتنكر لميراث أمنا هاجر وصلاح الدين وقطز. وكنت أعتقد أن سوقية إعلام الأمن المركزي في حق غزة وحق حماس هي عيب ليس بعده عيب؛ إلى أن بدأت أسمع ما رشح من أنباء عما نال رجال كتائب القسام وحماس الذين جرى اعتقالهم في مصر (وبضعة عشرات منهم لا زالت هناك في "ضيافة" الإخوة)وحتى يفهم القاريء سبب استغرابي واحساسي بالغضب والقرف سأحاول أن أستعرض معه تفاصيل "الباكِج" السياحية التي يمنحها الأمن المصري لمن اعتقله من عناصر القسام أو حماس: فهناك الضرب والتعرية والسب والشتم بالكلام الذي يخجل المرء أن يردده بينه وبين نفسه سرًّا في غرفة مظلمة! وإن كنت تأسف أيها القارئ لأن الكهرباء مقطوعة عن غزة المحاصرة فاعلم بأن الضابط المصري قد عمل بإخلاص على إيصالها لأجساد إخوانك العارية واجتهد في ضربهم بالعصي المكهربة على أعضائهم التناسلية. وليس هذا كل شيء فتلك كانت المقدمة البصرية للمشهد وحسب؛ أما نص الدراما المصرية فكان كما لك أن تتوقع بمستوى دراما "قطاع الانتاج" الهابطة التي تفسد رمضان في كل عام شرعيًّا وذوقيًّا؛ وهي أقرب للكوميديا التهريجية المعتادة على طريقة "علي سالم" منها للكلام الجاد: فالضابط الهمام يسأل هكذا بشكل مباشر وبسطحية عن مكان "اختباء" اسماعيل هنية وقادة القسام ويسأل عن مكان أسر "جلعاد شاليط" ويريد أن يفهم كيف تتم صناعة صواريخ القسام. بهذه النباهة التي لم تنبغِ ولا حتى لأبو كلبشة؛ هل تعتقد أيها القارئ أن ابن "الكامب" هذا ضابط حقيقي من العسكر أم "كومبارس" فارٌّ من فلم "مشاغبون في الجيش"؟!لكن لا داعٍ للغضب – نقول ذلك بكل أسف - فهذا المستوى من التعامل بات متوقعًا جدًّا وعلى كل الأطراف المعنية – كتائب القسام وحماس - التصرف على هذا الأساس. فنحن نعيش في زمان فرحنا فيه وأكبرنا لمصر الرسمية موقفها حين غضت الطرف عن عبور الفلسطينيين حدود بلادها لبضعة أيام ليشتروا الطعام بحر مالهم! فقد صار السماح للأخ بشراء الأكل من أخيه فتحًا من الفتوح التي تستحق الإشادة!!! هذا مع أن جريرًا حين نزل ببني العنبر - فباعوه الطعام ولم يُقْرُوهُ كما تكرم العرب ضيوفها - هجاهم هجاءً مقذعًا وقال:يا مالك بن طريف إن بيعكم * * * * رفد القرى مفسد للدين والحسبقالوا نبيعكم بيعا فقلت لهم * * * * بيعوا الموالي واستحيوا من العربجرير يقول "بيعوا الموالي واستحيوا من العرب"! أما مصر الرسمية فباعتنا الطعام بأسعار باهظة ثم سبتنا سبًّا مقذعًا ولم تترك قبيحة من خوارم المروءة ولا مرضًا ولا داءً إلا اتهمت غزة كذبًا بحمله للعريش: من أول نقل الأمراض وليس انتهاءً بتزوير الدولارات! وهي في نفس الوقت تبش للصهاينة وتبيع الكيان الصهيوني الغاز بأسعار زهيدة وتبيعه الكثير من الخدمات – من ضمنها بناء الجُدُر وآلات القهر في بلادنا – وتساعده في سن السكين لذبحنا وفي تجويعنا ومنعنا من شراء ما نحتاج من الطاقة والوقود. فإن كانت مصر الرسمية – ونحن نفرق بين موقف النظام وموقف الشعب العربي المسلم الحيي الأصيل العطوف الشفوق في مصر – تساعد في الإجهاز على جرحانا من خلال منعهم من السفر للعلاج؛ وتعين الصهاينة على تحطيم مستقبل كوادرنا الأكاديمية والمهنية التي تمنع من السفر من غزة للالتحاق بجامعاتها وأماكن عملها عبر العالم فأنا لا أستغرب أن تمتد هذه الوحشية لتشمل محاولة ضرب المقاومة في رأسها.ولا تسل بعد ذلك عن قانونية ودستورية هذه التصرفات وعن قيمة وحشية التعذيب في ميزان عدل وزير "تكسير الأرجل"؛ فمزارع الأمن المركزي ليست دولاً بالمعنى الحقيقي. ولو كانت الدولة المصرية دولة بالمعنى الحقيقي للدول وتعمل في خدمة مصالح مصر الحيوية لما وجد مسوغ ليس لتوقيف رجال القسام وتعذيبهم وحسب؛ بل لما وجد مسوغ لتبرير عدم شروع القوات المصرية في شن حملة فك الحصار عن قطاع غزة حتى الساعة (طبعًا بعد أن أمر الرئيس المصري الجيش "بتحمية الفرن" وعجن العجين وخبزه لإطعام الطوابير الجائعة في القاهرة فهمت سر تأخر الجيش عن شن حرب فك حصار غزة؛ فلا شك أنه يخشى على عجينه من إفراط التخمر إن تحرك وتركه؛ ولا شك أن التخمر المبالغ فيه للعجين سبة في جبين كل مقاتل خباز وضابط عجَّان ومع حفظ الألقاب لكل عناصر هيئة أركان "الخبيز"!)إن التعريف الجديد للسياسة الرسمية في العالم العربي هو إرضاء أمريكا وربيبتها "إسرائيل" بأي ثمن ومقايضة ذلك باستمرار مصالح العائلة الحاكمة في الحكم والسيطرة على اقتصاد البلاد من خلال كارتيلات الفساد وإعلام التبخير والتزمير وجلاوزة الكونترا. وحسب منطق التماهي مع المصالح الصهيونية هذا يبحث النظام المصري وأنظمة عربية عدة عن دور أكبر في المنطقة بالمزيد من التزلف للصهاينة والأمريكان. وأي شيء أحسن وأكبر وأعز من المساعدة في قطف رأس وذروة سنام الممانعة في قلب العالم الإسلامي؟ ما دامت السياسة في عرفهم هي "إرضاء أمريكا" فلا شك أن الجهد الأمني ضد حماس "فرض عين" ولا شك أن البحث عن أهداف استراتيجية في حماس لضربها هو "أحب الأعمال للرب الأمريكي" (ولا ننسى هنا ما كانت حماس قد قالته عن عمل "أجهزة مخابرات عربية" للنيل من قادتها في الداخل والخارج ولا أستبعد دورًا لبعض هذه الأجهزة في مقتل "عماد مغنية")!طبعا من المهم هنا أن نلاحظ أنه رغم بطش وقدرات النظام المصري إلا أنه يتصرف من موقع الخوف والاحساس بأزمة عميقة. فوجود "دولة للإخوان المسلمين" على حدود النظام خطر كبير يخيفه. وليس عندي شك أن "دحلانات" مصر والعالم العربي تتحسس كلها أعناقها؛ فهم معتادون على الاخواني البسيط البريء الذي يضع حقيبة المعتقل الخفيفة جاهزة عند الباب بانتظار جنود الأمن المركزي حين "يزورونه" فجرًا لسحبه إلى "أبو زعبل"؛ أما هذا النوع من الاخوان الذي "يفوِّت مرة" و"يسامح مرتين" و"يغرش ثلاث مرات" ثم حين يبلغ السيل الزبا يقرر أن "يلعن باطل الخونة والمرتزقة والدايتونيين" فهو نوع خطير يثير خوفهم.ونحن نحب أن نبشرهم جميعًا أنه رغم معاناة غزة فإن قدر الله نافذ وعجلة صعود الأمة بدأت بالدوران وآن لحقبة السقوط والتردي والاستعمار أن تنتهي لأن المستقبل القادم لنا! صحيح أن الطريق سيكون مليئًا بالتضحيات والنزف في الدم والمال إلا أنها ستثمر هذه المرة. حماس مصرة على استقلال فلسطين وانتصار المشروع المقاوم ونحن سعداء أن هذا سينتج على الهامش ربحًا كبيرًا جدًّا ورأسَ مالٍ ضخمًا اسمه "ضرب المثل للأمة"؛ وسيتفرج جيل النصر في فلسطين على الشعوب العربية تحذو حذوه – بل سيساعدهم أيضًا – وستكون الأمة على موعد مع الحقبة الراشدة الثانية؛ رَضِيَ ملوك الطوائف بذلك أم سخطوا!

ليست هناك تعليقات: